الاثنين، 18 نوفمبر 2013

طبيعة البشر


     وقد أرشدنا النبي
r بأحاديث عدة؛ لتكون لنا وقفة تأمل في هذا الجانب، فعن أنس أن النبي r  قال: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) (رواه الترمذي)، وعن أبي أيوب الأنصاري t عن رسول الله r أنه قال: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم لجاء الله بقوم ٍ لهم ذنوب يغفرها لهم) (رواه مسلم).
العدل
فها هي قصة المرأة المخزومية التي سرقت وأهمَّ قومها شأنها وقالوا: (من يكلم فيها رسول الله r ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله r؟ فكلّمه أسامة، فقال رسول الله r: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟، ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) (متفق عليه).
      قال ابن حجر - رحمه الله - : «وإنما خص r فاطمة ابنته بالذكر لأنها أعزّ أهله عنده، ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلّف، وترك المحاباة في ذلك»[1]، والنبي r قد أقسم على إقامة الحد حتى على ابنته التي هي بضعة منه لو أنها اقترفت ما يوجب ذلك - وقد أعاذها الله تعالى منه - فيُعلم بذلك مبلغ حرصه على إقامة العدل بين الناس، ولو كان على ذي القربى، أو الشريف في قومه، الحسيب في نسبه، حرصاً منه على إقامة العدل، وصوناً لحرمات الله أن تنتهك[2]، «وموقفه عليه الصلاة والسلام من أسامة t دالٌّ على عدله، وأن الشرع عنده فوق محبة الأشخاص والإنسان، فقد يسامح من يريد في الخطأ على شخصه، ولكن لا يملك أن يسامح أو يُحابي من يخطئ على الشرع»[3].

الهدوء والصبر
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله r بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه) (متفق عليه)، وفي رواية أم قيس: (أنها أتت النبي r بابن لها لم يأكل  الطعام، فوضعته في حجره، فبال، فلم يزد على أن نضح بالماء)، فالنبي r تعامل مع هذا الخطأ – غير المقصود – من هذا الطفل بكل هدوء ورويِّة، فلم يعنّف هذا الطفل ولا أهله على هذا الفعل، ولم يستعجل ويقذفه جانباً عنه، بل لم يزد على أن دعا بالماء ونضح هذا البول، يقول العلامة العيني – رحمه الله –: «ومن الفوائد في هذين الحديثين، الرفق بالصغار والشفقة عليهم، ألا ترى أن سيد الأولين والآخرين كيف كان يأخذهم في حجره ويتلطف بهم، حتى أن منهم من يبول على ثوبه فلا يؤثِّر فيه ذلك ولا يتغيّر»[4].
     وعن عبد الله بن مسعود t قال: (لما كان يوم حنين آثر النبي r أناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيه وجه الله، قال: فتغيّر وجهه حتى كان كالصّرف ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ قال: ثم قال: (رحم الله موسى قد أوذي بـأكثر من هذا، فصبر) (متفق عليه)، ففي هذا الحديث دلالة على أن النبي r قد تعامل بهدوء بعد غضبه، ولم يعاقب ذلك الرجل القائل، لأنه لم يثبت عليه ذلك، حتى استأذن عمر وخالد رضوان الله عليهم، النبيَّ r في قتله، فقال:(معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فهذه هي العلة، لكنه صبر استيفاءً لانقيادهم ، وتأليفاً لغيرهم[5]، والنبي r لما «لم يعاقبه على ذلك، فدلَّ ذلك على كمال حلمه r»[6]، قال ابن حجر – رحمه الله –: «وقد ارتكب الرجل المذكور إثماً عظيماً فلم يكن له حرمة، وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي r إقتداءً بموسى عليه السلام»[7].
      وعن أنس بن مالك t قال: (كنت أمشي مع رسول الله r، وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله r وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله r  فضحك، ثم أمر له بعطاء) (متفق عليه)، قال النووي – رحمه الله -: «فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله r وحلمه وصفحه الجميل».[8]
     وحديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وهمَّ به الصحابة وأرادوه بسوء، لكن النبي r قال: (دعوه لا تزرموه)، فالنبي r لو ترك الصحابة وما هموا به من إيذاء الرجل، لحدثت من ذلك مفاسد كثيرة، ولأوقعهم ذلك في الخطأ، ومن هذه المفاسد إما استمرار هذا الأعرابي في بوله، وهذه مفسدة كبيرة، أو إقامته من بوله، وهذه مفسده أيضاً، لكن هذه أكبر من سابقتها؛ لأنه يترتب عليها الضرر على هذا البائل إذا منُع البول المتهيئ للخروج، وكذلك أنه إذا قام فإما أن يقطع رافعاً ثوبه، لئلا تصيبه قطرات البول، وحينئذ تكون القطرات منتشرة في المكان، وربما تأتي على أفخاذه ويبقى مكشوف العورة أمام الناس وفي المسجد، وإما أن يدلي ثوبه، وحينئذ يتلوّث الثوب ويتلوث البدن، وهذه أيضاً مفسدة، فلهذا ترك النبي r هذا الرجل يبول حتى انتهى، ثم أمر بأن يصبَّ عليه ذنوباً من ماء[9].
الرفق والرحمة
يقول الله سبحانه وتعالى مبشراً إيانا وواصفاً لرسوله الكريم r: )لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم( (التوبة: 128)، وقال تعالى: )وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين( (الأنبياء: 107)، ويقول هذا النبي الرحمة المهداة r عن نفسه: (إني لم أبعث لعّاناً، وإنما بعثت رحمة) (رواه مسلم)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللهr : (إن الله رفيق يحبّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العنف، و ما لا يعطي على سواه) (رواه مسلم)، وعن جرير بن عبد الله t قال: قال رسول الله r: (من حُرِم الرِّفق حُرم الخير، أو من يُحرمَ الرِّفق يُحرمَ الخير) (رواه مسلم).
     وقد جسّد لنا نبي الرحمة r هذا المعنى واقعاً ملموساً نستنير به في تعاملنا مع لمخالفين، فعن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي r قالت: (دخل رهط من اليهود على رسول الله r فقالوا: السَّام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السَّام واللعنة، قالت: فقال رسول الله r: مهلاً يا عائشة، إنَّ الله يحب الرِّفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله، أوَلم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله r: قد قلت وعليكم) (رواه البخاري)، ففي هذا الحديث أن هؤلاء الرَّهط من اليهود دعوا على الرسول r بقولهم: (السَّام عليكم) أي الموت العاجل، ففهمت ذلك عائشة رضي الله عنها فردَّت عليهم وزادت اللعنة لهم، «فأراد النبي r أن لا يتعوَّدَ لسانها الفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السبّ»[10]، وذلك غاية في الرِّفق منه r، حتى مع مخالفيه، ومن يَدعون عليه بالموت العاجل؛ فهو «لم يقابل قولهم القبيح ومقصدهم الفاسد بالعنف»[11].
     وعن عمر بن أبي سلمة t قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله r، وكانت يدي تطيش في الصّحفة، فقال لي رسول الله r: يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طُعمتى بعد. (متفق عليه)، ففي هذا الحديث الحرص من النبي r على تصحيح خطأ هذا الصبي اليتيم وتوجيهه إلى آداب الطعام، وجاء كل ذلك برفق ولين حيث خاطبه r بقوله: (يا غلام) بما يناسب سنه، وبما لا يوحى بالعنف والشِّدة، ولذا عَقَل هذا الغلام هذا التوجيه، فقال: (فما زالت تلك طُعْمَتِي بعد) أي أنه فهم هذا التوجيه أحسن الفهم، ولزم ذلك وصار عادة له[12]، وهنا يتجلى رفق النبي r في تعليم اليتيم الذي كان في بيته وتحت نظره.[13]
     وعن أبي هريرة t: (أن رسول الله r دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلَّم على النبي r، فردَّ وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي r، فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلٍّ - ثلاثاً - فقال: والذي بعثك بالحقِّ ما أحسن غيره، فعلِّمني فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها) (متفق عليه)، قال ابن حجر رحمه الله: «وفيه - الحديث - حسن التعليم بغير تعنيف، وفيه حسن خلقه r ولطف معاشرته»[14]، فهذا الحديث يؤكد بيان حرصه r، وشفقته، وسعة صدره، على تعليم أصحابه ما ينفعهم، وتفهيمهم ما لم يفهموه[15].
     وعن أنس بن مالك t قال: (دخل النبي r فإذا حبل ممدود بين السّاريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت، فقال النبي r: لا، حُلوّه، لُيصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) (رواه البخاري)، ففي هذا الحديث رحمته r بهذه المرأة وبأمته كذلك؛ حيث لم يكلفهم ما يجهدهم، ويشقّ عليهم.[16]
     وكذلك حديث الرجل الذي أصاب أهله في نهار رمضان، وجاء إلى رسول الله r يستفتيه، وفيه أنه لم يجد ما يعتق به ولا يستطيع الصيام، ولا يجد ما يطعم به، فلما جاء بعض الطعام إلى النبي r أمره أن يتصدق به، فأخبرَ النبي r أنه لا يجد أفقر من أهل بيته في المدينة، فضحك النبي r، ورحمه ثم قال له: (أطعم أهلك) (رواه البخاري)، وهذا في حال من ندم على خطئه.[17]
     وعن معاوية بن الحكم السلمي t قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله r إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أميّاه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمّتونني لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله r - فبأبي هو وأمي - ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسنَ تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن - أو كما قال رسول الله r - ، قلت: يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية وجاء الله بالإسلام ...) (رواه مسلم)، فلنتأمل كيف كان النبي r على قدر عظيم من الخُلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، فهو r لم ينهره، ولم يضربه، ولم يشتمه، ولذلك أعلنها ذلك الأعرابي: أنه ما رأى معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه r، فهو لما أثَّر الرفق فيه، وأدرك أن ما صدر منه كان بسبب قرب عهده بالجاهلية، بدأ يستفسر عن الأمور التي كانت شائعة في الجاهلية كي يتمكن من اجتنابها - وكانت محرمة – بدل أن تظهر منه فينكر عليه.[18]
     ونختم هذا المبحث بحديث عظيم، تتجلى فيه أسمى معاني الرفق والرحمة النبوية، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي r: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل u، فناداني، فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك؛ لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي r: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئًا) (رواه مسلم).
الحكمة والموعظة الحسنة
     يقول الله تعالى في محكم التنزيل: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ((النحل: 125)،
     وقد كان النبي r يعظ أصحابه بالمواعظ الحسان، ويتخوّلهم بالموعظة؛ كراهة السآمة، ويشدُّ أفئدتهم للانتباه له، فعن العرباض بن سارية t قال: (صلى بنا رسول الله r ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب ..) (رواه أبو داود والترمذي).
     وقد تجلّت هذه الحكمة في مواقف عديدة، ففي حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما في حجَّة الوداع، حيث (كان رديف النبي r فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي r يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ..) (متفق عليه)، والحكمة – والله أعلم – في هذا الحديث هي تغطية النبي r لوجه الفضل، وفي رواية عند ابن حجر: (لوى عنقه)، وفي رواية كذلك: (صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ..)، وقد جاء معلّلاً، كقوله r: (رأيت غلاماً حدثاً)، وفي رواية (شاباً وشابة)، (وجاريةٌ حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان)، وفي الرواية الأخرى: (فلم آمن عليهما الشيطان)[19]، فهذا التصرف «تصرفٌ حكيمٌ من رسول الله r ، حيث لم يزد على وضع يده أمام وجه الفضل، مع أنه نظر إلى النساء وهو في عبادة، ورديف النبي r، ولكن هذا الأسلوب النبوي كان كافياً لإصلاح الخطأ من الفضل ابن عباس رضي الله عنهما»[20].
     وفي رسائل رسول اللهr  للملوك فوارق دقيقة مؤسسة على حكمة الدعوة, روعي فيها ما يمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد التي يدينون بها، فلما كان هرقل والمقوقس يدينان بألوهية المسيح كليًّا أو جزئيًّا، وكونه ابن الله، جاءت في الكتابين اللذين وجها إليهما كلمة (عبد الله) مع اسم النبي r صاحب هاتين الرسالتين، فيبتدئ الكتابان بعد التسمية بقوله: (من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم)، وبقوله: (من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط)، بخلاف ما جاء في كتابه r إلى كسرى أبرويز, فاكتفى بقوله: (من رسول الله إلى عظيم الفرس)، ولما كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشمس والنار، وكانوا بعيدين عن مفهوم النبوة والتصور الصحيح للرسالة السماوية، جاءت في الكتاب الذي وجه إليه عبارة: (وأني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيًّا).[21]
     ولعلنا لا ننسى حديثين تم ذكرهما آنفاً، لمعاوية بن الحكم السلمي الذي شمّت العاطس وهو في الصلاة، والأعرابي الذي بال في المسجد، فهذان الموقفان من أعظم الحكم السامية التي أوتيها النبي r، وقد ظهر أثر ذلك في نفس ومشاعر المخالف، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، حتى رفع الأعرابي عقيرته بقوله: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً).
الحوار والإقناع
     عن أنس بن مالك t في قصة الأنصار الذين قالوا يوم حنينٍ، حين أفاء الله على رسوله r من أموال هوازن ما أفاء (فطفق رسول الله r يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يُعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فُحدَّث رسول الله r بذلك، فجمعهم في قبّة من أَدَم وفيه، فقال r: ما حديث بلغني عنكم؟ .. أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله؟ فوا الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ..) وفي رواية البخاري: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقون فألّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئاً قالوا:الله ورسوله أمنّ، قال: لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا.. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي r إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار ..) وفي رواية: (فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ..) (متفق عليه)، ففي هذا الحديث تتجلى أهمية الحوار والإقناع في تغيير بعض القناعات التي قد تكون خاطئة بالكلية، فقد تعامل النبي r مع هذا الموقف من أنصاره المؤمنين الذين وجدوا في أنفسهم، بنزع هذا التصوّر الخاطئ من جذوره، فحاورهم، وأقنعهم، وأثّر فيهم حتى بكوا، وصدحوا بالقناعة والرضا الكاملين: (رضينا برسول الله r قسماً وحظّاً)، وقال الإمام الكرماني - رحمه الله -: «إنما أراد به r تألّف الأنصار، واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، ومذهبهم، حتى رضي أن يكون واحداً منهم، لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها»[22].
     عن أبي أمامة t (أن فتى شابا أتى النبي r فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادن، فدنا منه قريبا، قال: اجلس، فجلس، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه،  فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء) (رواه أحمد)، ففي هذا الموقف المفاجئ لمن حضر الموقف، نجد التعامل النبوي الكريم رغم ما فيه من مطلب لا يستسيغه أحد، فنحن نعلم أن «الشاب عادة ما يقتنع بالحوار وبالأدلة المنطقية، فلهذا نجد أن النبي r أسهب في الحوار معه، لأن طبيعة الشاب لا يقتنع بسرعة، ولكن بعد حوار ومناقشة، وقد أعطاه النبي r أمثلة وردوداً واقعية من أهله وعشيرته وأقرب الناس إليه».[23]
التعريض والبيان العام
     التَّعريض في اللغة: خلاف التَّصريح[24]، وكان إحدى وسائل التعامل مع المخالفين وفق النهج النبوي الكريم، ويظهر الخلق العظيم الذي اتصف به النبي r، وقد استخدمه «لتوجيه الصحابة، والأمة من بعدهم إلى تجنب بعض الأعمال المكروهة التي تؤدي إلى إيذاء المجتمع، أو إلى فساد العبادة».[25]
     فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله r رأى بصاقاً في جدار القبلة، فحكّه ثم أقبل على الناس فقال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإن الله قِبَل وجهه إذا صلى) (متفق عليه)، ففي هذا الحديث لم يبحث النبي r عن الفاعل ليؤنبه أمام الناس ويردعه، بل التفت للفعل نفسه؛ ليبين خطأه، ويحذّر الآخرين من تكراره، ولم يخرج الفاعل من زمرة جماعة المسلمين، فما أجمل قوله: (أحدكم).
     وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (صنع النبي r شيئاً فرخّص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي r، فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزَّهون عن شيء أصنعه، فوا الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) (متفق عليه)، قال ابن حجر - رحمه الله -: «أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميّز الذي صدر منه ذلك ستراً عليه، فحصل منه الرِّفق من هذه الحيثية، لا بترك العتاب أصلاً»[26].
     وفي قصة "ابن اللّتبية" (لما بعثه الرسول r ليأتي إليه بصدقات بعض القوم، فجاء وقال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام النبي r فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاّ جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى له أم لا؟) (متفق عليه)، ففي هذا الحديث «أراد النبي r أن يعنِّف ويوبِّخ كل من سوَّلت له نفسه أن يُقبل على مثل هذا العمل المحرّم، هكذا بدون أن يتعرّض لشخص ابن اللّتبية، فلم يسمه باسمه، ولم يشهِّر به، محافظة على إحساسه ومراعاة لشعوره، مما يؤذيه نفسياً أو يحطَّ من قدره، أو تلحق به إهانة قد لا تمَّحي، وهذا كله من جمِّ أدبه r، وحسن معاملته لأصحابه».[27]
     وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (تخلف عنا النبي r في سفرة سافرناها، فأدَركَنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار) ثلاثاً. (متفق عليه)، ولعل الحكمة في هذا الحديث هي عدم تسمية المخطئ بعينه، إذ ليس الجميع كلهم قد نسوا مسح أعقابهم – بالتأكيد – «فرسول الله r في هذا الحديث كان يرى الذين أخطأوا في وضوئهم، وقصَّروا، وعند إنكاره عليهم، لم يقل لهم يا فلان، ويا فلان، بل قال: (ويل للأعقاب من النار).[28]
     وكذلك حديث أنس بن مالك t (في الرَّهط الذي جاءوا يسألون عن عبادة رسول الله r، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالوّها، فقالوا: وأين نحن من النبي r؟ قد غفر الله له ما تقّدم من ذنبه، وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فحمد الله وأثنى عليه فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ... فمن رغب عن سنتي فليس مني) (متفق عليه)، وحديث أنس بن مالك t قال: (قال النبي r: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، فاشتدَّ قوله في ذلك، حتى قال: ليُنتَهُنُّ عن ذلك أو لتخطفنَّ أبصارهم) (رواه البخاري)، ففي مواقف عدة كان منهج النبي r في التعامل مع المخالف هو الستر والتعريض والاكتفاء بالبيان العام، دون التصريح وافتضاح أمره، قال الكرماني - رحمه الله -: «وكانت هذه عادته، حيث ما كان يخصِّصُ العتاب والتّأنيب لمن يستحقه، حتى لا يحصل له الخجل ونحوه على رؤوس الأشهاد»[29]، فسبحان القائل في هذا الخلق النبوي العظيم:  )وإنك لعلى خلق عظيم ((القلم: 4).
المدح والثناء
     وقد أولى النبي r هذا الجانب اهتمامه ورعايته، دون أن يكون هذا المدح محظوراً أو يورث في نفس متلقيه الكِبر والخيلاء، ففي حديث أبي بكرة t (أن رجلاً ذُكر عند النبي r  فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبي r: ويحك، قطعت عنق صاحبك – يقوله مراراً – إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، وإن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحداً) (متفق عليه)، يقول ابن حجر - رحمه الله - عن هذا الحديث: «قال ابن بطَّال: حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه، لم يأمن على الممدوح العُجبَ لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيّع العمل، والازدياد من الخير، اتكالاً على ما وصف به ... فإنه لا يأمن أنه يُحدث فيه المدحُ كبراً، أو إعجاباً، أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل»[30]، وهذا بالنسبة لمن مدح بما ليس فيه، وإلا فإن النبي r قد مُدح في الشِّعر والخطب، ومَدحَ هو r نفراً من أصحابه.
     عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( .. وكنت غلاماً شاباً وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله r، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوّية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فَلَقِينَا مَلَكٌ آخر فقال لي: لم ترع، فقصصتها على حفصة، فقصَّتها حفصة على رسول الله r، فقال: ( نِعمَ الرجّلُ عبد الله لو كان يصلي من الليل)، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً. (متفق عليه)، فالنبي r عندما مدح عبد الله بن عمر t بهذا المدح والثناء الجميل «نبّهه إلى أمرٍ غفل عنه، وبأسلوبٍ رائعٍ محبّبٍ إلى النفس: (لو كان يصلي من الليل)، وهكذا المدح والثناء في مكانه المناسب، وزمنه المناسب، وباعتدالٍ من غير مراءٍ، ولا تبجيلٍ، يؤتي ثماره في كل حين».[31]
     وعن أبي بكرة t (أنه انتهى إلى النبي r وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصّف، فذُكر ذلك للنبي r فقال: زادك الله حرصاً  ولا تَعد) (رواه البخاري)، قال ابن المنيِّر: «صوّبَ النبيُّ r فعل أبي بكرة من الجهة العامة، وهي الحرص على إدراك فضلية الجماعة، وخطَّأهَ من الجهة الخاصة».[32]
     وعن جبير بن مطعم t قال: (قال رسول الله  r في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (رواه البخاري)، فلنتأمل ذلك إن عرفنا أن المطعم بن عدي قد مات مشركاً، ولم يمنع ذلك النبي من الثناء عليه وحفظ معروفه السابق[33].



[1] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر - 12 / 97.
[2] أخلاق النبي r في القرآن والسنة / أحمد الحداد 3 / 1261.
[3] الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس / محمد المنجد - ص 23.
[4] فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري / خالد القرشي - 2 / 821.
[5] شرح صحيح مسلم / النووي 2 / 129.
[6] فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري/ سعيد القحطاني 2/ 973.
[7] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر 10 / 529.
[8] شرح صحيح مسلم / النووي 7 / 147.
[9] شرح رياض الصالحين/ ابن عثيمين - 6/ 288.
[10] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر - 11 / 46.
[11] فقه الدعوة في صحيح البخاري/ سعيد القحطاني - 1 / 512.
[12] النبي الكريم r معلماً / أ . د فضل إلهي - ص 196.
[13] من أساليب الرسول r في التربية/ نجيب العامر - ص 26.
[14] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر -  2 / 327.
[15] تربية النبي r لأصحابه / خالد القرشي -  ص 391.
[16] أخلاق النبي r في القرآن والسنة / أحمد الحداد : 72 / 620 – (بتصرف).
[17] الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس / محمد المنجد - ص40.
[18] من صفات الداعية اللين والرفق / أ. د. فضل إلهي ظهير  - ص 24 (بتصرف).
[19] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر - 4 / 80 - 81.
[20] المنهاج النبوي في دعوة الشباب/  سليمان العيد - ص 337.
[21] السيرة النبوية / الندوي -  ص290.
[22] فقه الدعوة في صحيح البخاري/ سعيد القحطاني - 2/956.
[23] أساليب الرسول r في الدعوة والتربية/ يوسف الصوري –  ص 47.
[24] لسان العرب/ ابن منظور – مادة (عرض).
[25] التربية بالحوار/ عبد الرحمن النحلاوي – ص 123.
[26] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر - 10 / 530.
[27] تربية النبي r لأصحابه / خالد القرشي -  ص 514.
[28] فقه الدعوة في صحيح البخاري / خالد القرشي - 1 / 360.
[29] المرجع السابق -  1 / 498.
[30] فتح الباري شرح صحيح البخاري / ابن حجر - 10 / 493.
[31] منهج التربية النبوية للطفل/ محمد نور سويد - ص 349.
[32] فتح الباري شرح صحيح البخاري/ ابن حجر - 2 / 313.
[33] التعامل مع غير المسلمين في السنة النبوية/ أ.د. عبد الله الجبرين - ص 21 (بتصرف).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق